بيروت
الأحد 27 شباط 2011، عند الساعة 11.30 صباحا، أقيم قداس إلهي في الذكرى الأربعين على رحيل البطريرك السابق المثلث الرحمات يوحنا بطرس الثامن عشر كسباريان (1982-1999)، في كنيسة القديس غريغوريوس المنور – مار الياس في وسط بيروت. وقد ترأس الذبيحة الإلهية صاحب الغبطة نرسيس بدروس التاسع عشر كاثوليكوس بطريرك كيليكيا للأرمن الكاثوليك بحضور حشد من الرسميين والمؤمنين. وتطرّق غبطته في عظته الى فضائل الفقيد الغالي خلال رسالته الرعوية والكهنوتية المثمرة وقال: " كان يعطي بلا حساب، وبقدر الإمكان كان لا يرفِضُ لأحدٍ طلبًا، معتبرًا ذاته أبًا للجميع، خاصةً للمحتاجِ والمريضِ والبائس. وبشهادة الكثيرين قام السعيد الذكر بدورٍ هام أثناء الحربِ الأهلية اللبنانية رافعًا رايةَ المصالحة والحلول السِلمية. لذا كان رجال السياسة يلجأون إلى حكمته وخبرته في أدِقّ الأحداث التي مرّ بها لبنان". وبالتالي نورد عظة صاحب الغبطة في هذه الذكرى.
أصحابَ السيادة،
حضراتِ الآباءِ الأجلاء،
أيتها الشخصياتُ الرسمية من وزراءٍ ونوابٍ ورجال الجيش،
أيتها الأخواتُ الفاضلات،
أيها المؤمنون الأعزاء.
أربعون يومًا إنقضت على فقدِ الراحلِ الكريم المثلثِ الرحَمات يوحنا بطرس الثامن عشر الذي لبّى دعوةَ الرب تعالى بعد أن أنهى حياته الفانية ليحظى بالحياة الباقية في النعيم الدائم، حيث لا وجعٌ ولا حزن ولا تعبٌ ولا أنين لِينعمَ بالرؤيا الإلهية والسعادةِ الدائمة. كان رحِمهُ الله مستعدًا لهذا الإنتقالِ المصيري، إذ كان يرغبُ دائمًا في إتمام مشيئة الله. ولما سمِع صوت الرب يناديه، قالْ: "ها أنا ذا".
هذه هي حالةُ كلِّ مؤمنٍ يبحثُ عن إتمامِ مشيئة الرب، وليس عن رغبته الشخصية ومشاريعه.
إن إخلاصَ الراحلِ العزيز للرب ومسؤولياته الأبوية المتعددة تُجاه أبنائه كانتا تحملانِهِ على التحسّسِ بمشاعر الآخرين لتلبية طلباتهم.
فكان يعطي بلا حساب، وبقدر الإمكان كان لا يرفِضُ لأحدٍ طلبًا، معتبرًا ذاته أبًا للجميع، خاصةً للمحتاجِ والمريضِ والبائس.
ما أكثرَ ما كان يمنحُ الرجاء بابتسامته العذْبة ويَنْشِرُ المحبةَ والسلامَ في القلوب. لذا فكان كثيرون يبحثون لديه عن كلمةٍ ملطّفة، ليس بين أبناءِ الطائفة وحدَهم، بل لدى مختلِفِ الطوائف.
بشهادة الكثيرين قام السعيد الذكر بدورٍ هام أثناء الحربِ الأهلية اللبنانية رافعًا رايةَ المصالحة والحلول السِلمية. لذا كان رجال السياسة يلجأون إلى حكمته وخبرته في أدِقّ الأحداث التي مرّ بها لبنان.
إستمعنا قبل بُرهةٍ إلى كلمة الإنجيل: "من يأكلُ هذا الخبزُ النازلُ من السماء يحيا إلى الأبد" (يوحنا 6/58).
إنّ الخبز السماوي هو القربانُ الأقدس، إنه جسدُ سيدِنا يسوع المسيح ودمُه.
فالإنجيل المقدس يعلّمنا أنَّ من يأكلُ جسدَ يسوع ويشربُ دمَه تكون له حياةُ النعمة، أي الحياةُ الإلهية، الحياةُ الأبدية.
لذا كان السعيدُ الذكر في سنواته الأخيرة يقضي كلّ يومٍ وقتًا غيرَ يسيرٍ ساجدًا أمام القربانِ الأقدس. حيث إن هذا السجود يُعتبرُ تكملةً لصلاة القداس.
من يقدّم السجود للقربان الأقدس يعتبرُ نفسَهُ مشاركا المسيح في سرّ الفداء، كما يقول بولس الرسول. ذلك لأنّ السجودَ لله في القربانِ الأقدس علامةُ عُرفانِ الجميل للسيد المسيح الذي أحبّنا حبًّا عظيمًا. السجود معناهُ أيضًا الإشتراكُ في تضحية الذات لأجل فداء النفوسِ مع المسيح الإله.
كل مسيحيٍ مدعوٌ بموجِب سِرّ عماده ليقدم السجود لله بالروح والحق. هذا ما قاله يسوع للمرأة السامرية، ثم أضاف: "على مثال هؤلاء الساجدينَ يُريدُ الآب" (يو 4/23).
فالراحلُ الكريم لم يكن يكتفي بقراءة هذه الآية، بل كان يعملُ على أن يجعلَها حياةً له.
كان أحدُ الفلاسفة يردّدُ بعد اهتدائه إلى نور الإيمان الحكمةَ التالية: "أخيرًا وجدتُ من يستحقُّ أن أجثوَ على ركبتيَّ أمامَه". إنّ الذي يسجدُ لله يتفهّمُ تفهّمًا أعمق محبةَ الله الأبويةِ له.
كل إنسانٍ مدعوٌ ليقدّم السجودَ لله كي يزدادَ معرفةً له تعالى ويكونَ مستعدًّا ليجعلَ حياتَه بين يديه طوبى لمن يجدُ هذا الطريقَ السامي الذي يقودُ إلى الراحة الأبدية.
إنّي على يقين أن ذكرى الراحلِ العزيز ستظلُّ حيّةً في أعماق قلوب الذين عَرَفوه.
إنّ عينيَّ البطريرك كسباريان كانتا شاخصتين على الحياة الأبدية ولم يكن منتظرًا سوى رحمتِه تعالى ومحبتِه الفائقة، راجيًا وعدَ السيد المسيح الذي قالْ:
"إذا ما ذهبتُ واعددْتُ لكم مكانًا، أعود وآخذُكم إليّ، لتكونوا أنتم أيضًا حيث أكون أنا" (يو 14/3).
ليكن ذكرُه مؤبدًا. آمين