بيروت
الثلاثاء 24 نيسان 2012، الساعة الخامسة عصرا، ترأس صاحب الغبطة الكاثوليكوس البطريرك نرسيس بدروس التاسع عشر ذبيحة إلهية بمناسبة الذكرى السابعة والتسعين للإبادة الأرمنية (1915-2012)، في مدرسة القديس غريغوريوس (الجمهور - الأشرفية). حضر القداس شخصيات روحية وسياسية وممثلين عن الجمعيات الأرمنية الكاثوليكية بالإضافة الى حشد من المؤمنين.
في هذه المناسبة ألقى الأب سيبوه كرابيديان كلمة نوردها بالكامل كما يلي:
"كان مساء وكان صباح وكان سبعة وتسعين عاما.
صاحب الغبطة الكلي الطوبى،
اصحاب السيادة المطارنة الأجلاء،
حضرات الأباء الأفاضل،
حضرات الكهنة المحترمين،
حضرات الراهبات الفاضلات،
حضرات سعادة النواب، معالي الوزراء، السفراء المحترمين وجميع الشخصيات الحكومية.
خالص احترامي لجميع الأرمن المؤمنون.
قبل سبعة وتسعون عاما"، في تلك الليلة اسدل ستار الظلام على الشعب الأرمني.
في تلك الليلة الظلماء، اتخذت جماعة، " تركيا الفتاة والترقي " بموافقة ومؤازرة الحكام الاتراك المتعطشين للدم كالوحوش الضارية، القرار على استئصال وترحيل وتصفية وقتل كل ارمني متواجد ضمن الاراضي العثمانية. وطمس ومحو وازالة كل دلالة على وجودهم في التاريخ. ولقد استفادوا من الحرب العالمية الأولى لتمرير مخططهم الجهنمي، فخلعوا عنهم اللباس الانساني ولبسوا ثياب الوحوش ليتمكنوا من النهب والتنكيل والقتل والتدمير وانتهاك الاعراض واستباحة المحرمات والمقدسات الى حد اطعام القربان المقدس للكلاب، والابقاء على ارمني واحد وحيد لوضعه في المتحف.
تلك الليلة الظلماء كانت سنة 1915.
في العهد القديم، عندما خلق الله الأرض، انتقى ارمينيا لتكون مكانا" لمملكته الارضية ليتمتع كل انسان مخلوق بوجود الله. هذه هي الحقيقة التي لم يتمكن امراء التفكير الجهنمي من استثائغها. الا تظنون بان كلمة النبي سوف تتحقق ثانية : "غيرتي على بيتك تأكلني". والا تظنون ان الله من ضمن مخططه لخلق عالم جديد لم يفرد للشعب الارمني مكان خاص تشرق فيه شمس النهار بعد سواد ذلك الليل.
المجزرة تمت وفق مراحل متعددة. في البدء قامت الحكومة العثمانية بتسليح كل شخص يستطيع حمل السلاح وسحبه الى الجبهة، وبعد فترة وجيزة امرت بترحيل واجلاء كل من لا يحمل السلاح، باستثناء الذين
اعتنقوا الدين الاسلامي، وذلك لتصفيتهم فيما بعد. رافقت الشرطة المرحّلين الى مكان معين لتسلّمهم الى "منظمة خاصة" كانت قد انشئتها سابقا"، وذلك لابادتهم اثناء المسيرة على الطرقات وتقود الباقين الى الصحراء.
درب الصليب هذا، والذلّ والاهانة والعذاب الغير انساني هذا، ونحن الآن في سنة 2012، يعطينا الفرصة لفحص ضمائرنا بصورة واقعية ونستخلص النتائج الثلاث التالية :
1- الدفاع عن القضية الأرمنية يعني الكرازة.
2- الدفاع عن القضية الأرمنية يعني شد اواصر الروابط بين ارمينيا وارمن الشتات.
3- الدفاع عن القضية الأرمنية يعني التوجه الى حلم الربيع الأرمني لشعب شهيد.
أولا" : الدفاع عن القضية الأرمنية يعني الكرازة.
سبعة وتسعون عاما" مرت على تلك المجازر، وما زالت تحمل في طياتها المطالبة العادلة التي اضحت بدورها صوت انجيل يصرخ من جميع اقطار العالم للعالم اجمع. ونحن بمحافظتنا ومطالبتنا بقضيتنا نكون قد علّمنا العالم العدالة، والوفاء، والتضامن وحب الشعب الواحد والوطن والدين.
يجب ان تكون متابعتنا لقضية المجزرة الأرمنية كرازة. والمطالبة بالحق هي اساس مبني على روح الأنجيل، يجب ان نكون مثالا" للشعوب كيف ان العدالة سوف تنتصر. نحن اصحاب قضية حقة وعادلة حتى ان ابواب الجحيم لن تقوى عليها.
هؤلاء استشهدوا، لان خطيئتهم الوحيدة كانت بانهم يتكلمون ويصلون بلغة مختلفة هي اللغة الأرمنية.
اذا اردنا ان نحترم ذكرى شهداءنا، علينا ان نكون امناء للعهد السامي الذي قطعوه لله. امناء للشعب والوطن، امناء للغة والثقافة، امناء للوحدة، مثلما عاشوا فيما بينهم ابان اللحظات الأخيرة. قوتنا هي في البقاء امناء وموحدين.
لا يكفي بان نسرد امجاد شهدائنا، اليوم من سيخط التاريخ، اليوم نحن من سيخط سطور تاريخ.
ألا تشبه قصة الشعب الأرمني قصة الارملة في الانجيل التي ما ملّت تطالب القاضي بانصافها من غريمها. صحيح باننا لسنا يتامى، لكن لنا قضية مع عدونا، وبما اننا شعب له اله، الذي من اجل اسمه اخذ اباؤنا على عاتقهم شتى انواع التضحيات، فاصبحوا شهودا" لمعتقدهم وايمانهم، صدقوا يا ايها الشعب الارمني ان الله سيبقى معنا وسينصفنا. ربي متى ستنظر الى قضيتي. ونحن كالعذارى الحكيمات سوف نبقي قناديلنا مضاءة لندخل معك وننضم الى وليمتك.
يا ليت التركي يفهم ويقبل بان يضع نهاية لما قامت به الحكومة العثمانية، وبان الارمني هو غيّور على مصالحه الوطنية والدينية اكثر من اية مواثيق دولية، الذي ما فتأ يناور لاستأصال الصفحات الدموية من التاريخ.
اليوم، ما زال الشرق الاوسط يأمل بان التركي يستطيع ان يكون الوسيط لحل مشاكلهم. كيف يمكن لقاتل ان يكون وسيط سلام. علينا ان نتصدى للفكر التركي الذي ما برح لغاية الآن يحاول بشتى الطرق طمس وتحوير الحقائق.
عندما قربوا لتلاميذ يسوع انسان مسكون بروح شريرة، ابكم اصم، لم يستطيعوا ان يخرجوا الشيطان منه، فاتوا به ليسوع الذي طرده، ثم استدار نحو تلاميذه قائلا" : هذا الصنف من الارواح الشريرة لا تطرد الا بالصلاة. نعم هذا التركي هو تلك الروح الشريرة البكماء الصمّاء لا يسمع ولا ينطق. يفهم فقط لغة القتل والتنكيل. ذاك التركي الذي قام بالمجزرة، لا ينكسر الا بالصلاة ولا يركع الا بالصلاة. سلاحنا الصلاة، وصلاتنا المطالبة، ومطالبتنا امانتنا. لهذا قلت : الدفاع عن القضية الأرمنية يعني الكرازة. نحن بقضيتنا نكرز، بقضيتنا نستمر وبقضيتنا نشهر ونشهد للعالم مسيحيتنا.
ثانيا" : الدفاع عن القضية الأرمنية يعني شدّ اواصر الروابط بين ارمينيا وارمن الشتات.
اليوم قبل الامس نحن بحاجة لشد اواصر الروابط بين ارمينيا وارمن الشتات. فمن خلال هاتين الرئتين يستطيع الأرمني ان يتنفس.
فالأرمن المقيم وارمن الشتات يتغذون من نفس الاصول التاريخية والثقافية وهذا ما يجعلهم اقوياء الواحد بالآخر. نفس التحديات تواجه ارمينيا وارمن الشتات، عظمة الشعب الأرمني وقوته تكمن في تماسكنا بوحدتنا، وهذا ما يجب علينا العمل عليه. ان ارمن الشتات، في ثقافتهم في تربيتهم في لغتهم في ايمانهم في مجتمعهم في افكارهم المتعددة هم قوة بحد ذاتهم وهذه القوة هي بمثابة ينبوع للدولة الأرمنية. لذلك، فالتواصل بين المقيم والشتات يجب ان يقوم على تبادل المساعدات، الافكار، التعامل بشفافية وذلك على صعيد المبادىء الانسانية. ان أرمنيا وجدت وستبقى وطنا" لجميع ابنائها.
ان تفعيل التواصل وتمتينه بين ارمنيا والشتات هي رسالة موجهة لكل ارمني، اكان في الخارج بفضل علاقاتهم على كافة الاصعدة وفي الداخل بواسطة حكومة الدولة الأرمنية بهدف الحفاظ على القيّم والسمو بها لخير الجميع. بتجمعنا حول ارمينيا، الوطن الأم، يمكننا ان نتصدى لكل المشاكل الاساسية التي تعترضها، من حيث الاهداف والاولاويات لتصل الى خواتمها السعيدة.
أرمينيا، اقليم كراباغ وارمن الشتات، هذا المثلث باتحاده يستطيع تقوية ودعم الدولة الأرمنية. مواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين، وذلك لانقاذ ارمن الشتات من الضياع وانهاء بعدل مسألة اقليك كراباغ. ان ارمن الشتات كان وسيبقى الجسر بين دول العالم وارمينيا.
ان تمتين العمل المشترك يعود بالفائدة من اجل التعرّف على المجزرة الأرمنية واسترداد الحق. ان المنظمات والجمعيات المتواجدة في الشتات هي حاملة على عاتقها التعريف بالمجازر الأرمنية. يجب ان تتضافر الجهود من جانب الحكومة الأرمنية وأرمن الشتات لنصل معا" الى الهدف المنشود.
ان تعريف المجزرة الأرمنية هي شبكة الآمان للبقاء والاستمرارية لكل ارمني. ان قضيتنا هي اساس استمراريتنا. نحن لا نعرف الموت لاننا نستمد حياتنا من شهدائنا لنهبه للعلم اجمع.
ان الأرمني قد وطىء الموت بالشهادة. حتى اننا لم نجد مقبرة واحدة تحتضن رفات مقدسة لاي شهيد لان النور المنبثق منها لا تقوى اي لجّة مظلمة على حجبها. ارادوا دفننا، الا انهم لا يعلمون بان الأرمني لا يدفن، لانه يؤمن انه لا موت دون قيامة.
ذاك الظلم الذي لحق بالشعب الأرمني ليس له حدّ او حدود، لذلك فالعمل المشترك بين أرمينيا والشتات يجب ان لا يكون له حدّ او حدود.
ثالثا" : الدفاع عن القضية الأرمنية يعني التوجه نحو امل لربيع منتظر للشعب الشهيد.
اليوم وكل يوم نشهد رياح التغيير الربيعية، الآتية من البعيد لا تلبس ان تصل. مع العلم بان العلامات هي قليلة الا انه لا يجب ان نفقد الأمل. الا ان امل التغيير للشعب الشهيد متى يصل.
ان الابادة الأرمنية يجب ان لا تكون وثيقة تستفيد منها بعض الدول لمصالحهم الشخصية. ان مستقبلنا يجب ان لا يدفن من خلال مصالح الدول. يكفي خداعا" وتمرير المعاهدات من تحت الطاولة. نحن شعب لديه مطالب. كفى للمخادعين بان يملوا علينا حب الوطن.
ثلاث سنين تفصلنا عن المئوية للابادة، لتكن هذه السنين الثلاث عظيمة والتي ستقودنا الى القيامة.
ان الابادة للشعب الأرمني تستمر، لانه رويدا" رويدا" تظهر المجزرة الجديدة الى العلن بنواح عدّة. الهجرة من أرمينيا، القضية الاساسية لاقليم كراباغ، والعذابات التي يتعرضون لها الأرمن في منطقة " تشافاخك" المتواجدة في جمهورية جورجيا، والأرمن الذين يذوبون في المجتمعات المتعددة، والتحديات الثقافية واللغوية. وأخيرا" اللامبالاة تجاه ايمان غريغوريوس المنّور.
لا بدّ من متابعة القضية الارمنية لانها ستقودنا الى استحقاقات آتية.
اليوم علينا تمهيد طريق الربيع الآتي :
1- التاكيد على التواريخ التي حصلت فيها المجازر، بدأ" من سنة 1893 ولغاية 1923.
2- الاعلان على ان التهجير حصل ضمن الاراضي الأرمنية وفي الاراضي الغربية.
3- التاكيد على ان المجازر التي قامت بها السلطنة العثمانية ليست ضدّ الشعب الأرمني فحسب بل ضدّ الانسانية اجمع، ولكي يصدر حكم يدين الدولة التركية، بنفيها للمجازر والوقوف ضدّ السياسة الأرمنية بشتى الاساليب.
4- اجبار الدولة التركية على قبول بما قامت به تجاه الشعب الأرمني وذلك لأسترداد الحقوق.
5- ايجاد الروابط التي تمت الى المجازر وما تخلفه من أمور على سياسة الدولة الأرمنية العالمية. بمعنى، القبول بان النفي تجاه المجازر يشكل نوعا" ما عدم أمان للدولة الأرمنية. يا ترى الى اي حدّ ستتمكن هذه الحلول من ابعاد الخطر عن الدولة الأرمنية.
أختم كلمتي بتحية صادرة من القلب لكل الشعب الأرمني، متمنيا" بان القضية الأرمنية سوف تحصل على العدالة المنشودة في المستقبل القريب وسنتمكن جميعا" من التواجد على ارض واحدة تحت علم واحد.
تحية لجمهورية ارمنيا.
تحية لجمهورية كراباغ.
تحية للكرسي الأم المقدس اتشميازين.
تحية لكاثوليكوسية بيت كيليكيا.
تحية لأرمن تشافاخك المعذب.
تحية لجميع أرمن الشتات."