بيروت
في شهر نَيسان ١٩١٥ ابتدأت مآساةُ عائلتنا، ومآساةُ آلاف العائلات الأرمنيّة، عندما تمَّ تهجير وذبح أفرادٍ وأفرادٍ منها إثر الإبادة الأرمنيّة التي خُطِطَ لها وتمَّ تنفيذُ فُصولِها المشؤومة لتؤدي بحياةِ مليون ونصف المليون من أبناءِ شعبنا الأرمنيّ، وشعوب المِنطَقة من سريان وكِلدان وآشوريين.
ولكن من كانَ يُمكنه أن يتصوّرَ بأنّ من تلك العائلة المُبعثرة على رمالِ الصحاري، وبين الكهوفِوالوديان وبعد مائة عام، وفي عُمرٍ يُناهزُ ال81 عاماً، وبدعوةٍ من الروحِ القُدس، وباختيار من قِبَلِ آباء السينودس المقدّس، سيجلِسُ الإبنُ والحفيدُ على الكرسي البطريركيّ لكنيسةِ الأرمن الكاثوليك، الشهيدةِ والشاهدة لموتِ وقيامةِ السيِّد المسيح، الربِّ والإلهْ.
إنَّها العنايةُ الإلهيةْ، التي في هذه الحَقَبةِ التاريخية، أرادت أن تقودَ سفينةَ كنيستِنا بواسطة شخصي الضعيف، مُتّكلاً أولاً على قوةِ وحكمةِ الروحِ القدس، وعلى تضامُن وشَرِكَةِ اخوتي السادة الأساقفة والكهنة والراهبات والمكرَّسين والشعب، لنتابع سويّةً إعلانَ بشارةِ السيد المسيح السلامية، ليس فقط في كنيستِنا الأرمنيّةِ الكاثوليكيّةْ، ولكن على مدى بُلدانِ الشرق الأوسط وأرمينيا، وفي بلادِ الإنتشار.
هذا، وبتدبيرٍ إلهي، أراد إخوتي الأساقفة الأجلاء أن يذهبوا بعيدًا في الزمان ليختاروا اسقفًا مستقيلاً خلفًا للمُثلّثِ الرحمات البطريرك الكاثوليكوس نرسيس بدروس التاسع عشر، الذي فوجئنا بموته، وانتقالِه إلى الأخدارِ السماويّة وهو في وهَجِ عطاءاته. فأمام هذا الواقع، وهذا الاختيار المجاني المفاجئ كان لا بدَّ لي من أن أُردّد مع شفيعتي القدّيسة تريزيا الطفل يسوع "في الكنيسة أمّي، أريدُ أن أكونَ الحُب".
فمنذ اليوم هذا هو شعاري البطريركيّ وخريطةُ طريقِ حَبريتي. فها إنّي أودِعُكُم واستودِعُكم إياه من على هذا المذبح المبارك وتحت سماء دير سيِّدة بزمّار التاريخي العريق.كي أتمكن من عيشِه وتحقيقِه وإياكُم لمجدِ اللهِ الأعظمْ ولخيرِ كنيستِنا الأرمنيّة والكنيسةِ المشرقيّة والكنيسةِ جمعاء.
وبما أن رسالتي البطريركية لن تدوم طويلاً (علمًا أن الأعمار بيد الله) ولكنّي في هذا اليوم المُبارك، باسم كنيستنا الأرمنيّة الكاثوليكيّة أرفع صلاتي كي يحميَ الربُّ الإله وطنَنا لبنان منارةً حضاريةً، ورمزَ تعايُشِ مسيحييٍ- إسلامي سائلاً المولى أن يُنير ضمائِرَ رؤوسائِنا الروحيين والمدنيين لتتوقفَ الحروبْ ويعودَ إنسانُنا المشرقي إلى صفاء وجودِه وكينونتِه تحت رايةِ المواطِنة الصادِقة لنسمع من جديد صدى أصوات الملائكة تصدح في سماء لبنان وفي سماوات شرقِنا العزيز.
" المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام ".
هذا، وبِشُكرٍ وإمتنانٍ عميقين نُثَمِّن ما قامت به الدولةُ اللبنانيّة حكومةً وشعبًا، من فعل تضامنٍ سياسيٍ وثقافيٍ وحضاري مع شعبِنا الأرمنيّ في لبنان، وبِلاد الإنتشار دِفاعاً عن القضيّة الأرمنيّة في ذِكرى المئوية للإبادة وذلك لتترسَخ قِيَمُ العدالةِ والحَقِّ في ضمائرِ الشعوب ولتَتألقَ الحقيقةُ، رايةَ عدل وسلام وحُرِّية وتحرُّر من ظُلُماتِ وجرائم الماضي الأليم.
هذا، وبعد تقديم شُكري العميق لِقداسةِ البابا فرنسيس الذي شَجّعَني وباركَإنتخابي، ولإخوتي أصحاب الغِبطة البطارِكة والسادةالأساقِفة من الكنائس الشقيقة، الذين عَضَدُوني ومنحَوني القُوّة بادعيتِهم وصلواتهم. كما أنّي أقدِّم شُكري الجزيل لكنيسة فرنسا وأساقِفتها الأجِلاء الذين عَمِلتُمعهم طيلة ۳٦ عاماً في حقل الربّ مُدافعين سويّةً عن القِيَم الإنجيليّة في عالمٍ يتخبَّطُ في المادِّيةِ والأنانيّةِ ناسياً ومُتناسياً جُذورَه المسيحيّة ومعموديتَه، كما نوَّه إليها البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني.
ها إنّي عائدٌ اليومإلى لبنان، على أرض طفولتي وتحت سماءِ أرزِه الخالد حيث بدأتُ أُولى خطواتِ رسالتي الكهنوتيّة لأتقاسَم اليومَ وإياكُم هُمومَكم وأفراحَكُم وأتراحَكُم ورجاءَكُم في سبيل غدٍ مُشرِق مُدركين جميعًا بأن طريقَ القيامة يُمَرُّ حتمًا مِنَ الصليب، فمهما عصَفتْ العواصِفُ الهوجاء، ومهما حِيكت المؤامرات لإقتلاعِنا من هذا الشرق، مهدِ ورمزِ وجودِنا سنبقى نُرَدِد مع بولس الرسول:
"فمن يفصُلُنا عن محبة المسيح؟ أشِدّةٌ أم ضيقٌ أم اضطهادٌ أم جوعٌ أم عُريٌ أم خَطَرٌ أم سيفٌ؟
ولكننا في ذلك كله فُزنا فوزًا مبينًا، بالذي أحَّبنا"، (روما ٨، ۳٥-۳۷)
بزمّار، في ٩ آب ۲۰۱٥